إذا كنت ممن يسهل عليهم العطاء ولا يؤلمهم البذل فأنت سَخِي
وإن كنتَ ممن يعطون الأكثر ويُبقون لأنفسهم فأنت جواد
أما إن كنت ممن يعطون الآخرين مع حاجتك إلى ما أعطيت لكنك قدمت غيرك على نفسك فقد وصلت إلى مرتبة الإيثار.
رتبة الإيثار من أعلى المراتب، وإنما ينشأ الإيثار عن قوة اليقين وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة، مع الرغبة في الأجر والثواب.
ومن أهم الأسباب التي تعين على الإيثار:
1- الرغبة في مكارم الأخلاق، والتنزه عن سيئها، إذ بحسب رغبة الإنسان في مكارم الأخلاق يكون إيثاره؛ لأن الإيثار أفضل مكارم الأخلاق.
2- بُغض الشُّحِّ، فمن أبغض الشُّحَّ علم ألا خلاص له منه إلا بالجود والإيثار.
3- تعظيم الحقوق، فمتى عظمت الحقوق عند امرئ قام بحقها ورعاها حق رعايتها، وأيقن أنه إن لم يبلغ رتبة الإيثار لم يؤد الحقوق كما ينبغي فيحتاط لذلك بالإيثار.
4- الاستخفاف بالدنيا، والرغبة في الآخرة، فمن عظمت في عينه الآخرة هان عليه أمر الدنيا، وعلم أن ما يعطيه في الدنيا يُعطاه يوم القيامة أحوج ما يكون إليه.
5- توطين النفس على تحمل الشدائد والصعاب، فإن ذلك مما يعين على الإيثار، إذ قد يترتب على الإيثار قلة ذات اليد وضيق الحال أحيانًا، فما لم يكن العبد موطنًا نفسه على التحمل لم يطق أن يعطي مع حاجته.
درجات الإيثار:
لقد قسم بعض العلماء الإيثار إلى مراتب ودرجات، فقد قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
الأولى: أن تُؤْثِرَ الخلقَ على نفسك فيما لا يخْرُمُ عليك دِيناً، ولا يقطع عليك طريقاً، ولا يُفسد عليك وقتاً، يعني أن تُقدمهم على نفسك في مصالحهم، مثل: أن تطعِمهم وتجوع، وتكسوهم وتعرَى، وتسقيهم وتظمأ، بحيثُ لا يؤدي ذلك إلى ارتكاب إتلافٍ لا يجوز في الدين، وكلُّ سببٍ يعود عليك بصلاح قلبك ووقتك وحالك مع الله فلا تؤثِر به أحداً، فإن آثرت به فإنما تُؤْثِر الشيطان على الله وأنت لا تعلم.
الثانية: إيثارُ رضا الله على رضا غيره وإن عظمت فيه المحن وثقلت فيه المؤن وضعف عنه الطول والبدن، وإيثار رضا الله عز وجل على غيره، هو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاته، ولو أغضب الخلْق، وهي درجة الأنبياء، وأعلاها لِلرسل عليهم صلوات الله وسلامه. وأعلاها لأولي العزم منهم، وأعلاها لنبينا صلى الله عليه وسلم، وعليهم، فإنه قاومَ العالم كُله وتجرد للدعوة إلى الله، واحتمل عداوة البعيد والقريب في الله تعالى، وآثر رضا الله على رضا الخلق من كل وجه، ولم يأخذه في إيثار رضاه لومةُ لائم، بل كان همُّه وعزْمُه وسعيه كله مقصوراً على إيثار مرضاة الله وتبليغ رسالاته، وإعلاء كلماته، وجهاد أعدائه؛ حتى ظهر دين الله على كل دين، وقامت حجته على العالمين، وتمت نعمتُهُ على المؤمنين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاد، وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه، فلم ينل أحدٌ من درجةِ هذا الإيثار ما نالَ، صلوات الله وسلامه عليه.
هذا وقد جرت سنة الله التي لا تبديل لها أن من آثر مرضاة الخلق على مرضاته: أن يُسخط عليه من آثر رضاه، ويخذُله من جهته، ويجعل محنته على يديه، فيعود حامدُهُ ذامّاً، ومن آثر مرضاته ساخطاً، فلا على مقصوده منهم حصل، ولا إلى ثواب مرضاة ربه وصل، وهذا أعجز الخلقِ وأحمقهم.
قال الشافعي رحمه الله: "رضا الناس غايةٌ لا تدرك فعليك بما فيه صلاحُ نفسك فالزمهُ"، ومعلومٌ أن لا صلاح للنفس إلا بإيثار رضا ربها ومولاها على غيره، ولقد أحسن من قال:
فليتك تحلُو والحياةُ مريرَةٌ وليتك ترضى والأنامُ غِضَابُ
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ وبيني وبين العالمين خرابُ
إذا صحَّ منك الودُّ فالكّلُّ هينٌ وكل الذي فوق التراب تراب
الثالثة: أن تنسب إيثارك إلى الله دون نفسك، وأنه هو الذي تفرد بالإيثار لا أنت، فكأنك سلمت الإيثار إليه، فإذا آثرت غيرك بشيء؛ فإن الذي آثره هو الحق لا أنت فهو المؤثر على الحقيقة، إذ هو المُعطي حقيقةً.
مواقف خالدة في الإيثار
ولقد سجل التاريخ بأحرف من نور مواقف خالدة للمسلمين بلغوا فيها المرتبة العالية والغاية القصوى من الإيثار، فهذا سيد الخلق وخاتم النبيين وإمام المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم تأتيه امرأة بُبردة فتقول: "يا رسول الله أكسوك هذه؟ "فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها، فلبسها فرآها عليه رجل من الصحابة، فقال: "يا رسول الله ما أحسن هذه؟ فاكسنيها" فقال: "نعم"، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم لامه أصحابه فقالوا: " ما أحسنت حين رأيت النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها، ثم سألته إياها وقد عرفت أنه لا يُسأل شيئاً فيمنعه، فقال: "رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم لَعلِّي أُكَفَّن فيها".
وأما أصحابه رضي الله عنهم والتابعون فحدث ولا حرج، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى نسائه فقلن: "ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يُضيف هذا؟ "فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني. فقال: هيئي طعامك وأصبحي سراجك (أوقديه) ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء، فهيأت طعامها وأصبحت سراجها ونوَّمت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها، فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ضحك الله الليلة - أو عجب - من فعالكما، فأنزل الله: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)[الحشر].
وهؤلاء هم الأنصار يعرض أحدهم على أخيه من المهاجرين أن يناصفه أهله وماله فيأبى المهاجر ويقول: "بارك الله لك في أهلك ومالك".
من فوائد الإيثار:
لو لم يكن من فوائده إلا أنه دليل كمال الإيمان وحسن الإسلام ورفعة الأخلاق لكفى، فكيف وهو طريق إلى محبة الرب سبحانه، وحصول الألفة بين الناس وطريق لجلب البركة ووقاية من الشُّحِّ.